ملخص المقال
تعتبر ظاهرة حرق الكتب في التاريخ الأندلسي ظاهرة تاريخية لافتة للنظر، وخصوصا في القرنين 5 و6هـ، فما تفسير تلك الظاهرة وأشهر نماذجها؟
تعرضت مسألة حرق الكتب في العهد الأندلسي، وخصوصًا في القرنين الخامس والسادس للهجرة، إلى نقاش واسع تناول طبيعة السلطة واضطراب علاقتها بالمثقف. فالسلطة من جهتها كانت تريد احتكار السيطرة، وصولًا إلى تكبيل العقل، والمثقف استغل امتيازه المعرفي للوصول إلى السلطة. وبسبب تعارض الطموحين انتهى الأمر في حالات كثيرة إلى غضب السلطان وانقلابه على المثقف.
وتكرر الأمر أكثر من مرة وخصوصًا في الفترة التي أعقبت ضعف الدولة الأموية في الأندلس، ونجاح العصبية العامرية في السيطرة السياسية على منصب الحجابة. وتتابعت الحوادث وتشابهت في فترة أمراء الطوائف وتكررت في عهدي دولة المرابطين ودولة الموحدين.
ظاهرة حرق الكتب
ظاهرة حرق الكتب ليست خاصية أندلسية أو إسلامية، بل شهدت مثلها مختلف حضارات العام. وأشهر حملة لحرق الكتب تم تسجيلها في تاريخ الإنسانية تلك التي أقدم عليها الإمبراطور الصيني (شي هوانغ تي) في العام 212 قبل الميلاد، حين قاد حربه على الكتب القديمة فأتلف وحرق مئات الدراسات التاريخية والأدبية والقانونية، وطارد الأدباء والعلماء في صحاري الصين وجبالها ولاقى كل من قبض عليه المصير نفسه. وتتميز حملة الإمبراطور الصيني بأنها الأكبر في التاريخ والأشمل؛ لأنها لم تقتصر على مفكر معيّن أو أديب أو مؤرخ بل طالت كل الكتب التي سبقت عهده.
والغريب أن الإمبراطور المذكور يعتبر من أهم الشخصيات التي عرفتها الصين، وتنسب إليه إنجازات حضارية وعسكرية وسياسية كبيرة. فهو الذي شجع على البدء في بناء سور الصين لوقف هجمات المغول (التتار) من الشمال، وهو قسّم الصين إلى 36 مقاطعة إدارية ليسهل بسط سلطانه عليها، وهو الذي نظم بقوة القانون ملكية الأرض وأعاد تنظيم الممتلكات التي استولى عليها من طريق الحرب، وهو الذي بسط سلطان الدولة على كثير من المقاطعات الصينية المستقلة ونظم عائدات العقارات والمحاصيل وفق صيغة أكثر تقدمًا من السابق.
توقف الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل أمام ظاهرة هذا الإمبراطور وحاول تفسير أوامره بحرق الكتب والكتّاب، فرأى أنه فعل ذلك "بغية تقوية أسرته الحاكمة عن طريق هدم وتدمير ذكرى الأسر الحاكمة السابقة". فالحرق برأي الإمبراطور هو إلغاء السابق والبدء من جديد من المربع صفر.
لم تعرف الحضارة الإسلامية مثل تلك الظاهرة الشاملة، وإنما حصلت بشكل محدود في فترات متقطعة لأسباب سياسية تتعلق عمومًا بخلافات خاصة بين الأمير والمثقف. وأحيانًا كان يغلب عليها طابع الانتقام الشخصي فيطال الحرق بعض الكتب المعينة وليس فكرًا بذاته. فالظاهرة لم تتحول إلى معركة عامة تناولت كل الكتب القديمة على أنواعها ومختلف حقولها كما فعل الإمبراطور شي هوانغ تي.
في العهد العباسي
طالت حوادث الحرق في محطات من التاريخ الإسلامي بعض الاتجاهات. فمثلًا عندما سيطر مذهب المعتزلة على الدولة العباسية وخصوصًا في عهدي المأمون والمعتصم أقدم قضاة مذهبهم على محاكمة المخالفين في الرأي، وحرقت كتب الكثير من الفقهاء والعلماء. وعندما زال عهدهم غابت كتبهم وطال بعضها الحرق، والبادئ أظلم.
الحاجب المنصور وحرق الكتب
ويشير صاعد الأندلسي في كتابه "طبقات الأمم" إلى إقدام الحاجب العامري (المنصور بن أبى عامر) في عهد هشام المؤيد على حرق بعض الكتب استجابة لرغبة بعض العلماء وضغوط الشارع. وإشارة صاعد ليست فريدة من نوعها إذ ورد ما يشابهها في بعض كتب المؤرخين والفقهاء والعلماء والفلاسفة.
ولاشك في أن للحوادث أسبابها، ولكل موضوع ظروفه، ويصعب جمعها في قالب واحد وتفسيرها في منهج تحليل عام ينسحب على مختلف المراحل واستخراج قانون يحاكم حضارة بأكملها.
قرأ صاعد الأندلسي المسألة في سياق سياسي محدد ووضعها في إطار معرفي له علاقة بوعيه الزمني لمسألة الأفكار واتصالها بالسلطة وغضب السلطان، ولم يحاول أن يمنهج موضوع "حرق الكتب" ويفلسفه كما ذهب "هيغل" في كتابه عن فلسفة التاريخ.
الأندلس نموذجًا
ظاهرة "حرق الكتب" في الأندلس لها أسبابها التاريخية حين عرفت في عهودها الإسلامية الازدهار العمراني الذي ساهم في إنتاج مدارس فقهية وفلسفية كان لها الدور البارز في تطوير المنظومة المعرفية الإسلامية التي انتقلت منها (ومن صقلية) إلى أوربا في وقت بدأت شمس الإسلام تغرب عن القارة.
من الصعب دراسة الفكر الأندلسي الإسلامي -في شقيه الفقهي والفلسفي- من دون قراءة تاريخ الأندلس والتجاذب الذي تعرضت له على فترات زمنية امتدت قرابة ثمانية قرون. فالأفكار عمومًا تتأثر بالبيئات المحلية كذلك لا تنفصل في خصوصياتها عن التأثيرات العامة التي تساهم في تكوين المعرفة وتنظيم الاجتماع وضبط السلوك الإنساني في أطر مشتركة. والعمران الأندلسي لا يمكن فصله عن الحضارة الإسلامية كذلك لا يمكن فهمه من دون دراسة خصوصيات البيئة التي كانت تمر دائمًا في حالات قلق وتوتر بسبب التجاذب المستمر بين قوتين: أوربا والإسلام.
تمت قراءات كثيرة للحضارة الأندلسية الإسلامية، وتناول الباحثون خصوصية التجربة وصلتها العميقة بالإسلام ودور الدين في إنتاجها ودفعها نحو التقدم. وتناول المستشرقون الدور الخاص للأندلس في إنتاج فكرها المميز في محاولة منهم لعزل العمران المحلي عن السياق التاريخي للحضارة العربية الإسلامية. إلا أن تلك المحاولات لم تصب النجاح بسبب صعوبة الفصل بين دوائر الإسلام أو عزل المشرق عن المغرب.
فالتواصل الحضاري كان دائم الحضور حتى في لحظات التقطع السياسي ونشوء مراكز متعددة للخلافة الإسلامية. فالحواجز السياسية لم تمنع انتقال العلماء والفقهاء والقضاة والمدارس الفقهية والفلسفية من المشرق إلى المغرب والعكس. وتاريخ المنطقة يشهد على ذلك حتى في أوقات عصيبة عرفت خلالها الخلافة اضطرابات داخلية أو نهوض دول مستقلة عن المركز كما حصل في مصر (الدولة الفاطمية) وفي الأندلس (الدولة الأموية).
التقطع السياسي لم يمنع التواصل أو يؤدي إلى انقطاع حضاري مستقل بل بقي التأثير المتبادل هو السمة الأبرز في المجرى الزمني، ويمكن ملاحظة الأمر من خلال مصادر الكتب ومراجعها، إذ نجد أحيانًا ما يشبه التطابق في المعلومات ورصد الحوادث والقراءات، وهذا يدل على وجود اتصالات ووسائل نقل ووسائط انتقال وخصوصًا في فترات الحج.
فريضة الحج كانت الصلة بين حلقات الزمن. وفي مكان الحج كان يتم تبادل الآراء بين المغاربة والمشارقة ويحصل التواصل النفسي في المشاعر والأفكار، فتنتقل من جهة إلى أخرى، وخصوصًا عندما كان يقرر بعض الحجاج البقاء في المشرق فترة أطول من الزيارة للاطلاع أو الدراسة أو المتابعة.
المغرب والمشرق
بحث إحسان عباس -مثلًا- هذه المسألة في حقل الأدب فذكر في كتابه "تاريخ الأدب الأندلسي" أن تدريس الفقه والحديث والعربية في الأندلس في عصر سيادة قرطبة اعتمد على الكتاب المشرقي، لذلك "هاجرت كتب المشارقة إلى الأندلس بكثرة، وكثرت رحلات الأندلسيين إلى المشرق في طلب العلم، وكان الواحد منهم يشرَّف بين بني قومه حين يروي عن شيوخ مصر وبغداد وغيرهما من بلدان المشرق" (ص34).
وسبب اعتماد أهل الأندلس على المشرق والتقليد لأهله يعود إلى أنه "كان أرقى حضارة وأوسع ثقافة، وإليه يلتفت الأندلسيون في تجارتهم ويرونه منبع العلم والدين وموطن القداسة والحج. وقد تنمو روح المنافسة مع الزمن بين المشرق والمغرب، ولكنها لن تستطيع أن تكفل استقلال الأندلس في شئون الحضارة والأدب، بل إنها ساعدت على توسيع دائرة التقليد". (ص35).
على رغم هذا التأثر الكامل نشأت خصوصية محلية بسبب الاختلاط بين "العرب الفاتحين والسكان الأصليين" وظهر الأمر في "لهجة عرب الأندلس"، إذ كان أكثرهم ابتعادًا عن العربية الصحيحة "أقربهم إلى المناطق التي تغلب فيها غير العربية"، وأصبحت مع الزمن لغة التخاطب "تمثل هذه التأثيرات المتباينة قوة وضعفا"، وأخذت الفصحى تنكمش "فلا تمثل إلا الجانب الرسمي للدولة، وغدت لغة أدبية لا يتذوقها إلا الطبقات المثقفة، إلا في جزائر صغيرة وسط هذا البحر من الاتجاه إلى اللغة الدارجة". (ص77).
يقتصر بحث عباس على الجانب الأدبي في محاولة منه لربط الأدب الأندلسي بأصوله من دون إغفال أثر البيئات المحلية وخصوصًا الحياة السياسية التي أثرت على الصورة الشعرية وألوانها المختلفة "فهي صراع خارجي في صورة غزوات مستمرة ومرابطة وجهاد في الثغور"، وهي صراع داخلي يتمثل في الفتن والثورات التي يحاول أصحابها بها الانشقاق عن طاعة قرطبة"، وهي "أيضًا معارك بين العناصر المختلفة على أساس العصبية"، وهي إلى ذلك كله "معارضة أو نقد للحكم القائم أو محاولة للتآمر في سبيل غايات فردية" (ص82).
لم تمنع هذه الخصوصية واختلاف البيئات من تقليد الأندلس للمشرق. وبرأي إحسان عباس هناك مجموعة عوامل ضغطت في هذا الاتجاه منها: أن الأندلس كانت في سياستها ونظمها "بنت المشرق" إذ لم "تنقطع صلتها الثقافية به في يوم من الأيام" فالأندلس كانت بحاجة إلى المشرق "لأنه أرقى حضارة وأحفل بأسباب التقدم العمراني" (ص116).
خنق الإسراف في التقليد والتماهي قابلية التحول "عن طريق الابتكار" وأدى إلى تقليل الأصالة وخصوصًا في مجال الأدب. واستمر هذا الوضع المتأرجح إلى أن حصلت الفتنة في الأندلس، التي تعرف في كتب التاريخ بالفتنة البربرية.
الفتنة الأندلسية
ساهمت تلك الفتنة في تأسيس نمط من السياسة الانقلابية، ونشأت في إطارها تناقضات عززت من جهة الدور التسلطي للدولة، وشجعت من جهة أخرى في نمو تيارات فقهية وفلسفية تبادلت المواقع في الدولة والمعارضة. وبسبب طبيعة السلطة الانقلابية كان لابد من نشوء نزعة استبدادية تسلطية دفعت بعض الأمراء إلى ممارسة نوع من الاستبداد الفكري وخصوصًا حينما كانت "الدولة" تتبنى وجهة نظر رسمية في تأييد هذا الفريق أو مطاردة ذاك.
أثار انتقال الدولة من الحياد إلى طرف في معادلة الصراع سلسلة أزمات وفتن دفع المثقفون ثمنها السياسي، حين كانت تتقلب السلطة بمزاجية فردية لا استقرار لها ولا ضوابط شرعية لحدودها. وبسبب تلك الطبيعة الانقلابية تسلطت "الدولة" في فترات مختلفة على حرية الفكر وحق المثقف (الفقيه أو الفيلسوف) في الاختيار.
لذلك شهدت بلاد الأندلس في القرنين الخامس والسادس للهجرة ظاهرة "حرق الكتب" بأمر من السلطة. ففي عهد "أمراء الطوائف" أحرقت كتب الإمام ابن حزم الظاهري. وفي عهد أمير دولة المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين أحرقت كتب الإمام الغزالي، وخصوصًا كتابه "إحياء علوم الدين". وفي عهد أمير دولة الموحدين المنصور (المنصور الموحدي) أحرقت كتب القاضي ابن رشد. فمحنة ابن رشد ليست استثنائية بل هي جزء من تاريخ عرفته الأندلس في فترة مضطربة من العلاقات.
تفسير الظاهرة
احتار المؤرخون في تفسير هذه الظاهرة واختلفوا في الاتفاق على سبب مشترك يقف وراء هذه الردة السلبية ضد أئمة أعلام في عصرهم. وعلى رغم اختلاف الدوافع، إلا أن العامل السياسي هو السبب المباشر لغضب السلطات.
بالإضافة إلى السياسة هناك جملة أسباب تاريخية تتعلق بالتكوين الاجتماعي والثقافي الذي بلور شخصية الكيانات في المراحل المغاربية الثلاث، وهي مراحل متداخلة زمنيًا وجغرافيًا. فدويلات الطوائف ورثت دولة الأمويين في الأندلس، وورثت دولة المرابطين أمراء الطوائف، واستولت دولة الموحدين على مُلك دولة المرابطين في المغرب والأندلس.
فكل محطة تاريخية كان لها وظيفتها السياسية. فالدولة الأموية توحيدية، ودويلات أمراء الطوائف انقسامية، ودولة المرابطين توحيدية كذلك دولة الموحدين، وبعدها عاد التفكك والانقسام إلى أن انهارت الدويلات وطرد المسلمون نهائيا من الأندلس.
ومأزق العلاقة بين المثقف والسلطة في مختلف تلك المحطات تطور في تضاعيف السياسة وتعرجاتها التاريخية بين مرحلة توحيدية وأخرى تفكيكية ثم تجميعية وبعدها انقسامية، إلى أن جاء موعد الخروج النهائي من الزمن الأندلسي.
التعليقات
إرسال تعليقك